مدخــــــل ::
بشـــــرى وهــي قولـــه صلــى اللــه عليــه وسلــم : " مــن صلــى علــي صــلاة واحــــدة , صلـــى اللـــه عليـــه بهــا عشــــــر صلــوات , ورفعـــه بهـــا عشـــر درجــات , وكتــب لــه بهــا عشـــر حسنــات , ومحــا عنــه بهــا عشـــر سيئـــات " .
مظــاهـــــــر الكمــــــال المحمــــــــدي قبــــــل النبـــــــــوة ....
إن الفترة التي قضاها الحبيب صلى الله عليه وسلم من أيام طفولته إلى يوم مبعثه , كانت حقا زاخره بمظاهر الكمالات المحمدية , وكلها دلائل لنبوته , و آيات كمالاته . وها نحن أولاء نستعرض مع القاريء الكريم طرفا منها طلبا لكمال محبته
و إن أول تلك المظاهر الكمالية : الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم وهو طفل لم يبلغ بعد , فهذه احدى الكرامات الإلهية للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم , وهو مظهر من مظاهر الكمال , إذ ألهم الله تعالى أبا طالب أن يستسقى به وهو طفل , فيأخذه ويأتي به إلى الكعبة , ويلصق ظهره بها ويرفع الغلام بين يديه , ولسان حاله يقول : اسقنا ربنا فقد توسلنا إليك بهذا الغلام المبارك , فيسقيهم الله تعالى حتى يجري واديهم وتخصب أراضيهم . فكانت هذه من طلائع النبوة وتباشيرها .
وثاني تلك المظاهر للكمال المحمدي : أنه صلى الله عليه وسلم لم تكشف له عورة قط بعد أن حدث له مرة وهو ينقل الحجارة مع رجالات قريش لبناء الكعبة المشرفة وكانوا يرفعون أزرهم على عواتقهم يتقون بها ضرر الحجارة , وكان هو صلى الله عليه وسلم يضع الحجارة على عاتقه وليس عليه شيء , فرآه عمه العباس _ رضي الله عنه _ فقال له : لو رفعت من إزارك على عاتقك حتى لا تضرك الحجارة , ففعل صلى الله عليه وسلم فبدت عورته , فوقع على وجهه فوق الأرض , ونودي : " استر عورتك " أي ناداه ملك , فما رأيت له بعد ذلك عورة أبدا .
وثالث مظاهر الكمال : أنه صلى الله عليه وسلم قد بغض الله تعالى إليه الأوثان وكل أنواع الباطل التي كان يأتيها فتيان قريش ورجالاتها من الغناء وشرب الخمر والقمار وسائر الملاهي , وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك عن نفسه فقال : " لما نشأت بغّضت إلي الأوثان وبغّض إلي الشعر , ولم أهمّ بشي مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين , كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد من ذلك . ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته . قلت ليلة لغلام كان يرعى معي : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة , فأسمر كما يسمر الشباب , فخرجت حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفا بالدفوف والمزامير لعرس كان لبعضهم , فجلست لذلك , فضرب الله على أذني , فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس , ولم أقض شيئا , ثم عراني مثل ذلك مرة أخرى " .
ورابع المظاهر للكمال : هو تحكيم قريش له في أعظم خلاف لها كاد يفضي بها إلى الحرب والقتال , وذلك أن السيل كان قد طغى على الكعبة فغمرها بالمياه و زلزل بناءها وكاد يهد أركانها , وتشاورت قريش طويلا في إعادة بناء الكعبة بعد الذي أصابها , وكانت تتهيب أن تمس الكعبة بشيء لا سيما هدمها وتجديد بنائها مخافة أن تنالها عقوبة من الله رب الكعبة وحاميها من كل كيد يراد لها و بعد أخذ ورد أقدمت على هدمها وتجديد بنائها بعدما أعدت لذلك عدته ومنه المال والحلال , و فعلا وزعت أركانها على قبائلها وشرعت في الهد والبناء , ولما ارتفع جدار الكعبة وبلغ موضع الحجر الأسود : اختلفوا فيمن يتشرف بوضع الحجر مكانه من الركن اليماني الشرقي , وتنافسوا في ذلك وشحّوا به على بعضهم حتى كادوا يقتتلون .
و أخيرا ألهمهم الله تعالى إلى تحكيم أول من يقبل من باب الصفا وما زالوا كذلك حتى أقبل محمد صلى الله عليه وسلم فما أن رأوه مقبلا حتى قالوا : هذا الأمين رضينا به حكما . وفعلا رضى صلى الله عليه وسلم بتحكيمهم له , فأمرهم أن يبسطوا ثوبا فوضعه فيه , ثم أمر ممثلي قبائل قريش أن يأخذ ممثل كل قبيلة بطرف ورفعوه , ولما حاذوا به مكانه من الجدار رفعه بيديه الكريمتين فوضعه مكانه , وبذلك حقنت دماء قريش , وعادت الألفة والمودة بين رجالات قريش , فكان هذا الحكم والتحكيم أكبر مظهر من مظاهر الكمال المحمدي قبل إنبائه و إرساله نبيا ورسولا .
وخامس المظاهر للكمال المحمدي : اعتراف بحيرا الراهب بكماله وبنبوته ووصيته عمه أبا طالب به وذلك أنه لما بلغ صلى الله عليه وسلم الثانية عشرة من عمره _ أو ما يقاربها _ و أراد أبو طالب _ وهو عمه وكافله _ السفر إلى الشام صحبة قافلة تجارية : عزّ على أبي طالب أن يخلف محمدا وقد امتلأ قلبه بحبه صلى الله عليه وسلم . وعزّ على محمد صلى الله عليه وسلم أن يفارقه عمه كذلك , فتعينت الصحبة , فصحبه أبو طالب معه إلى الشام وانتهوا إلى بصرى من ديار الشام , فنزلوا منزلا قريبا من صومعة راهب هو بحيرا , وكان بحيرا ذا علم بالمسيحية والكتب الأولى , وكان رأسا في المنطقة لعلمه وفضله .
وشاء الله تعالى أن يطل من أعلى صومعته , فيرى قافلة قريش وهي مقدمة نحوه , و أن بينها غلاما تظلله غمامة من الشمس . ولما وقفت القافلة للنزول ونزلت رأى الغمامة تقف فوق الغلام لا تتعداه , تحفظه من حر الشمس , فعلم أن لهذا الغلام شأنا . وكيف يصل إليه ويجري الحديث معه ليعرف شأنه ؟ فما كان من الراهب إلا أن دعا القافلة إلى طعام عشاء عنده بعنوان ضيافة , وقبلت القافلة ذلك بعد تردد واستفسار عن مثل هذه الضيافة التي لم تحصل لقوافلهم المتعددة قط , وطمأنهم بحيرا بأنه لا غرض له إلا إكرامهم والتعرف على أحوالهم .
ولما حضر الطعام وتقدم الأكلة لم ير بحيرا الغلام الذي رأى الغمامة تظله فتعجب , وقال للقوم : هل تخلف من قافلتكم أحد ؟ فقالوا : لا , فقال ؟ بلى , أين الغلام الذي كان معكم ؟ فجاءوا به , وقد تخلف لصغره و حيائه أن يطعم مع رجالات قريش , فبقى في رحل عمه , فلما جاء وجلس أخذ بحيرا يلحظه ويتأمله , ولما انصرف القوم قام بحيرا إلى محمد صلى الله عليه وسلم , وقال له : يا غلام : أسألك بحق اللات والعزى _ جريا على حلف العرب بهما _ إلا أخبرتني عما أسألك عنه , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسألني باللات والعزى , فو الله ما أبغض شيئا قط بغضهما " . فقال له : أسألك بالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه . فقال له صلى الله عليه وسلم : " سل عما بدا لك " فجعل بحيرا يسأله عن أشياء عن حاله في نومه وهيئته , فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبره , فيوافق ذلك ما عند بحيرا من نعوت الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته التي عرفها من الكتب السابقة , ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه _ وكان مثل أثر المحجم _ ثم التفت الراهب بحيرا إلى أبي طالب , فسأله عن الغلام فأخبره فعلم أنه النبي المنتظر , و أمره أن يعود إلى دياره , مخافة أن يغتالوه يهود إذا رأوه وعلموا به , فقضى أبو طالب حاجته من تجارته بسرعة وعاد بابن أخيه مسرعا إلى مكة .
وسادس المظاهر للكمال المحمدي : حضوره صلى الله عليه وسلم حلف الفضول . إن حلف الفضول كان بعد حرب الفجار التي كانت حربا فجر فيها أهلها بانتهاكهم حرمة الشهر الحرام , وقد دارت تلك الحرب بين كنانة وقريش من جهة , وقيس من جهة أخرى , وكان سببها تافها لم يعدُ قتل رجل من قيس تداعى بعده الأحلاف للقتال , ولما انتهت تلك الحرب الفاجرة الخاسرة إذ هي من عمل الجاهلية : دعت قريش إلى حلف الفضول . وسببه أن رجلا من زبيد جاء مكة ببضاعة , فاشتراها منه العاص بن وائل _ وكان ذا قدر وشرف في مكة _ فمنعه حقه فاستعدى الزبيدي الأحلاف على العاص , وهم عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم وعدى فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل , فما كان منه إلا أن علا جبال أبي قبيس , وصاح بشعر يصف فيه ظلامته , وعندها مشى الزبير بن عبد المطلب وقال : ما لهذا مترك , فاجتمعت هاشم و زهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان , ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره اذ ذاك عشرين سنة , فصنع لهم عبد الله طعاما وتحالفوا وهم في شهر ذي القعدة _ أي حلف بعضهم لبعض _ متعاهدين متعاقدين بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة , فسمت قريش ذلك الحلف " حلف الفضول " وقالوا قد دخل هؤلاء في فضل من الأمر , ثم مشوا إلى العاص بن وائل , وانتزعوا منه حق الزبيدي .
وفي هذا الحلف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسلام : " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم , ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " .
وعبدالله بن جدعان هذا هو الذي كان يكسوا ألف حلة وينحر ألف بعير في كل موسم , وقالت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : إن عبد الله بن جدعان _ يا رسول الله _ كان يطعم الطعام ويقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم الدين ؟ فقال : " لا , لأنه لم يقل يوما من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " .
وسابع الكمالات المحمدية هو : رغبة خديجة فيه وزواجه بها صلى الله عليه وسلم . إنه صلى الله عليه وسلم لما تجاوز العشرين من عمره , وحضر حلف الفضول , وقبله تحكيم قريش له في وضع الحجر الأسود , واشتهاره بالصدق والوفاء والأمانة والعفة والنزاهة زيادة على شرف الأصل , وطيب المحتد , وكان بمكة امرأة سرية ثرية ذات كمالات نفسية من خلق فاضل و أدب رفيع , تلك هي خديجة بنت خويلد الأسدية القرشية _ رضي الله عنها _ وقد بلغها من مظاهر الكمال المحمدي ما جعلها تعرض عليه الاتجار بمالها , ليوفر له دخلا ماديا يستغني به عن كفالة عمه أبي طالب ورفادته , ورضى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بالعرض وقبل الطلب وخرج في قافلة تجارية إلى الشام , ويصحبه لخدمته غلام خديجة المسمى بميسرة . وهذه المرة الثانية التي يسافر فيها صلى الله عليه وسلم إلى الشام .
ومن الآيات التي شاهدها ميسرة في سفره مع الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه رأى ملكين يظللانه من حر الشمس إذا اشتدت الهاجرة , كما أنه صلى الله عليه وسلم نزل يوما تحت ظل شجرة قريبة من صومعة راهب فرآه الراهب فسأل ميسرة عنه , فقال له : هو رجل من أهل الحرم القرشي , فقال له الراهب : إنه ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي , وذلك لما شاهد من آيات النبوة التي تلوح لكل ذي بصيرة و تأمل . وكما قال الإعرابي الذي نظر لأول مرة إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال : والله ما هو بوجه كذاب !! .
وعاد الحبيب صلى الله عليه وسلم بتجارة رابحة وسرت خديجة , وزادها سرورا ما أنبأها به غلامها ميسرة من خبر الراهب و أمر الملكين اللذين يظللانه من حر الشمس . فرغبت لذلك _ ولغيره _ في الزواج به صلى الله عليه وسلم وعمره يومئذ خمسة وعشرون عاما , وعمرها ما بين الخامسة والثلاثين و الأربعين سنة . وقد تزوجت قبله صلى الله عليه وسلم أبا هالة زرارة التميمي , وتزوجت قبل هذا بعتيق بن عائذ المخزومي , وولدت له ابنا يدعى هندا وبهذا كان كل من هند وهالة ربيبا للنبي صلى الله عليه وسلم . وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يتزوج غيرها حتى توفاها الله , وانتقلت إلى جواره , وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها إلا ما كان من إبراهيم , فإنه ابن مارية القبطية المصرية .
فصلى الله عليه وسلم ما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون .
مخـــــرج ::
لمـــا مــات الشافعــي رحمــه اللــه تعالــى رؤي فــي المنــام , فقالــوا لــه : مــاذا فعــل اللــه بــك ؟ قــال : غفــــر اللـــــه لــــي ورفعنـــــي . قالــــوا : بمـــاذا ؟ قــــال : بقولـــــي فــي كتــــــاب الرسالـــــة : فصلـــى اللــه وسلـــم عليــــه مــا ذكـــــره الذاكـــــرون , وغفـــــل عنـــــه الغافلــــــون .